فصل: الآية رقم ‏(‏ 23 ‏:‏ 51 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 سورة الشعراء

 مقدمة السورة

هي مكية في قول الجمهور‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ منها مدني؛ الآية التي يذكر فيها الشعراء، وقوله ‏{‏أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل‏} ‏ ‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ مكية إلا أربع آيات منها نزلت بالمدينة من قوله ‏{‏والشعراء يتبعهم الغاوون‏}‏ إلى آخرها‏.‏ وهي مائتان وسبع وعشرون آية‏.‏ وفي رواية‏:‏ ست وعشرون‏.‏ وعن ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعطيت السورة التي تذكر فيها البقرة من الذكر الأول وأعطيت طه وطسم من ألواح موسى وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش وأعطيت المفصل نافلة‏)‏‏.‏ وعن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني المبين مكان الإنجيل وأعطاني الطواسين مكان الزبور وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 1 ‏:‏ 9 ‏)‏

‏{‏ طسم، تلك آيات الكتاب المبين، لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين، إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين، وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين، فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون، أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم، إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم ‏}‏

قوله ‏{‏طسم‏}‏قرأ الأعمش ويحيى وأبو بكر والمفضل وحمزة والكسائي وخلف‏:‏ بإمالة الطاء مشبعا في هذه السورة وفي أختيها‏.‏ وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة والزهري‏:‏ بين اللفظين؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم‏.‏ وقرأ الباقون بالفتح مشبعا‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ وهي كلها لغات فصيحة‏.‏ وقد مضى في طه قول النحاس في هذا‏.‏ قال النحاس‏:‏ وقرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم والكسائي‏}‏طسم‏}‏بإدغام النون في الميم، والفراء يقول بإخفاء النون‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ وحمزة‏}‏طسين ميم‏}‏بإظهار النون‏.‏ قال النحاس‏:‏ للنون الساكنة والتنوين أربعة أقسام عند سيبويه‏:‏ يبينان عند حروف الحلق، ويدغمان عند الراء واللام والميم والواو والياء، ويقلبان ميما عند الباء ويكونان من الخياشيم؛ أي لا يبينان؛ فعلى هذه الأربعة الأقسام التي نصها سيبويه لا تجوز هذه القراءة؛ لأنه ليس ها هنا حرف من حروف الحلق فتبين النون عنده، ولكن في ذلك وجيه‏:‏ وهو أن حروف المعجم حكمها أن يوقف عليها، فإذا وقف عليها تبينت النون‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ الإدغام اختيار أبي عبيد وأبي حاتم قياسا على كل القرآن، وإنما أظهرها أولئك للتبيين والتمكين، وأدغمها هؤلاء لمجاورتها حروف الفم‏.‏ قال النحاس‏:‏ وحكى أبو إسحاق في كتابه ‏{‏فيما يجرى وفيما لا يجرى‏}‏أنه يجوز أن يقال‏}‏طسين ميم‏}‏بفتح النون وضم الميم، كما يقال هذا معدي كرب‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ قرأ خالد ‏{‏طسين ميم‏}‏‏.‏ ابن عباس‏}‏طسم‏}‏قسم وهو اسم من أسماء الله تعالى، والمقسم عليه‏{‏إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية‏}‏‏.‏ وقال قتادة‏:‏ اسم من أسماء القرآن أقسم الله به‏.‏ مجاهد‏:‏ هو اسم السورة؛ ويحسن افتتاح السورة‏.‏ الربيع‏:‏ حساب مدة قوم‏.‏ وقيل‏:‏ قارعة تحل بقوم‏.‏ ‏{‏طسم‏}‏و‏{‏طس‏}‏واحد‏.‏ قال‏:‏

وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمة بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه

وقال القرظي‏:‏ أقسم الله بطول وسنائه وملكه‏.‏ وقال عبدالله بن محمد بن عقيل‏:‏ الطاء طور سيناء والسين إسكندرية والميم مكة‏.‏ وقال جعفر بن محمد بن علي‏:‏ الطاء شجرة طوبى، والسين سدرة المنتهى، والميم محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ الطاء من الطاهر والسين من القدوس - وقيل‏:‏ من السميع وقيل‏:‏ من السلام - والميم من المجيد‏.‏ وقيل‏:‏ من الرحيم‏.‏ وقيل‏:‏ من الملك‏.‏ وقد مضى هذا المعنى في أول سورة البقرة ‏.‏ والطواسيم والطواسين سور في القرآن جمعت على غير قياس‏.‏ وأنشد أبو عبيدة‏:‏

وبالطواسيم التي قد ثلثت وبالحواميم التي قد سبعت

قال الجوهري‏:‏ والصواب أن تجمع بذوات وتضاف إلى واحد، فيقال‏:‏ ذوات طسم وذوات حم‏.‏

قوله ‏{‏تلك آيات الكتاب المبين‏}‏رفع على إضمار مبتدأ أي هذه ‏{‏تلك آيات الكتاب المبين‏}‏التي كنتم وعدتم بها؛ لأنهم قد وعدوا في التوراة والإنجيل بإنزال القرآن‏.‏ وقيل ‏{‏تلك‏}‏بمعنى هذه‏.‏ ‏{‏لعلك باخع نفسك‏}‏أي قاتل نفسك ومهلكها‏.‏ وقد مضى في الكهف بيانه‏.‏ ‏{‏ألا يكونوا مؤمنين‏}‏أي لتركهم الإيمان‏.‏ قال الفراء‏}‏أن‏}‏في موضع نصب؛ لأنها جزاء‏.‏ قال النحاس‏:‏ وإنما يقال‏:‏ بإن مكسورة لأنها جزاء؛ كذا المتعارف‏.‏ والقول في هذا ما قاله أبو إسحاق في كتابه في القرآن ؛قال ‏{‏أن‏}‏في موضع نصب مفعول من أجله؛ والمعنى لعلك قاتل نفسك لتركهم الإيمان‏.‏ ‏{‏إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية‏}‏أي معجزة ظاهرة وقدرة باهرة فتصير معارفهم ضرورية، ولكن سبق القضاء بأن تكون المعارف نظرية‏.‏ وقال أبو حمزة الثمالي في هذه الآية‏:‏ بلغني أن لهذه الآية صوتا يسمع من السماء في النصف من شهر رمضان؛ تخرج به العواتق من البيوت وتضج له الأرض‏.‏ وهذا فيه بعد؛ لأن المراد قريش لا غيرهم‏.‏ ‏{‏فظلت أعناقهم لها خاضعين‏}‏أي فتظل أعناقهم ‏{‏لها خاضعين‏}‏قال مجاهد‏:‏ أعناقهم كبراؤهم؛ وقال النحاس‏:‏ ومعروف في اللغة؛ يقال‏:‏ جاءني عنق من الناس أي رؤساء منهم‏.‏ أبو زيد والأخفش‏}‏أعناقهم‏}‏جماعاتهم؛ يقال‏:‏ جاءني عنق من الناس أي جماعة‏.‏ وقيل‏:‏ إنما أراد أصحاب الأعناق، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه‏.‏ قتادة‏:‏ المعنى لو شاء لأنزل آية يذلون بها فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية‏.‏ ابن عباس‏:‏ نزلت فينا وفي بني أمية ستكون لنا عليهم الدولة فتذل لنا أعناقهم بعد معاوية؛ ذكره الثعلبي والغزنوي فالله أعلم‏.‏ وخاضعين وخاضعة هنا سواء؛ قاله عيسى بن عمر واختاره المبرد‏.‏ والمعنى‏:‏ إنهم إذا ذلت رقابهم ذلوا؛ فالإخبار عن الرقاب إخبار عن أصحابها‏.‏ ويسوغ في كلام العرب أن تترك الخبر عن الأول وتخبر عن الثاني؛ قال الراجز‏:‏

طول الليالي أسرعت في نقضي طوين طولي وطوين عرضي

فأخبر عن الليالي وترك الطول‏.‏ وقال جرير‏:‏

أرى مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال

وإنما جاز ذلك لأنه لو أسقط مر وطول من الكلام لم يفسد معناه؛ فكذلك رد الفعل إلى، الكناية في قوله ‏{‏فظلت أعناقهم‏}‏لأنه لو أسقط الأعناق لما فسد الكلام، ولأدى ما بقي من الكلام عنه حتى يقول‏:‏ فظلوا لها خاضعين‏.‏ وعلى هذا اعتمد الفراء وأبو عبيدة‏.‏ والكسائي يذهب إلى، أن المعنى خاضعيها هم، وهذا خطأ عند البصريين والفراء‏.‏ ومثل هذا الحذف لا يقع في شيء من الكلام؛ قاله النحاس‏.‏

قوله ‏{‏وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين‏}‏تقدم‏.‏ ‏{‏فقد كذبوا‏}‏أي أعرضوا ومن أعرض عن شيء ولم يقبله فهو تكذيب له‏.‏ ‏{‏فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون‏}‏وعيد لهم؛ أي فسوف يأتيهم عاقبة ما كذبوا والذي استهزؤوا به‏.‏

قوله ‏{‏أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم‏}‏نبه على عظمته وقدرته وأنهم لو رأوا بقلوبهم ونظروا ببصائرهم لعلموا أنه الذي يستحق أن يعبد؛ إذ هو القادر على كل شيء‏.‏ والزوج هو اللون؛ قال الفراء‏.‏ و‏{‏كريم‏}‏حسن شريف، وأصل الكرم في اللغة الشرف والفضل، فنخلة كريمة أي فاضلة كثيرة الثمر، ورجل كريم شريف، فاضل صفوح‏.‏ ونبتت الأرض وأنبتت بمعنى‏.‏ وقد تقدم في سورة البقرة والله سبحانه هو المخرج والمنبت له‏.‏ وروي عن الشعبي أنه قال‏:‏ الناس من نبات الأرض فمن صار منهم إلى الجنة فهو كريم، ومن صار إلى النار فهو لئيم‏.‏ ‏{‏إن في ذلك لآية‏}‏أي فيما ذكر من الإنبات في الأرض لدلالته على أن الله قادر، لا يعجزه شيء‏.‏ ‏{‏وما كان أكثرهم مؤمنين‏}‏أي مصدقين لما سبق من علمي فيهم‏.‏ و‏{‏كان‏}‏هنا صلة في قول سيبويه؛ تقديره‏:‏ وما أكثرهم مؤمنين‏.‏ ‏{‏وإن ربك لهو العزيز الرحيم‏}‏يريد المنيع المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 10 ‏:‏ 15 ‏)‏

‏{‏ وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين، قوم فرعون ألا يتقون، قال رب إني أخاف أن يكذبون، ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون، ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون، قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون ‏}‏

قوله ‏{‏وإذ نادى ربك موسى‏}‏‏{‏إذ‏}‏في موضع نصب؛ المعنى‏:‏ واتل عليهم ‏{‏إذ نادى ربك موسى‏}‏ويدل على هذا أن بعده‏.‏ ‏{‏واتل عليهم نبأ إبراهيم‏} ‏ ذكره النحاس‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى؛ واذكر إذا نادى كما صرح به في قوله ‏{‏واذكر أخا عاد‏} ‏ وقوله ‏{‏واذكر عبادنا إبراهيم‏} ‏ وقوله ‏{‏واذكر في الكتاب مريم‏}‏ ‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى؛ ‏{‏وإذ نادى ربك موسى‏}‏كان كذا وكذا‏.‏ والنداء الدعاء بيا فلان، أي قال ربك يا موسى‏:‏ ‏{‏أن ائت القوم الظالمين‏}‏ثم أخبر من هم فقال، ‏{‏قوم فرعون ألا يتقون‏}‏ ف ‏{‏قوم‏}‏بدل؛ ومعنى ‏{‏ألا يتقون‏}‏ألا يخافون عقاب الله‏؟‏ وقيل‏:‏ هذا من الإيماء إلى الشيء لأنه أمره أن يأتي القوم الظالمين، ودل قوله ‏{‏يتقون‏}‏على أنهم لا يتقون، وعلى أنه أمرهم بالتقوى‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى؛ قل لهم ‏{‏ألا تتقون‏}‏وجاء بالياء لأنهم غيب وقت الخطاب، ولو جاء بالتاء لجاز‏.‏ ومثله ‏{‏قل للذين كفروا ستغلبون‏} ‏ بالتاء والياء‏.‏ وقد قرأ عبيد بن عمير وأبو حازم ‏{‏ألا تتقون‏}‏بتاءين أي قل لهم ‏{‏ألا تتقون‏}‏‏.‏ ‏{‏قال رب‏}‏أي قال موسى‏}‏إني أخاف أن يكذبون‏}‏أي في الرسالة والنبوة‏.‏ ‏{‏ويضيق صدري‏}‏لتكذيبهم إياي‏.‏ وقراءة العامة ‏{‏ويضيق‏}‏‏{‏ولا ينطلق‏}‏بالرفع على الاستئناف‏.‏ وقرأ يعقوب وعيسى بن عمرو أبو حيوة‏}‏ويضيق - ولا ينطلق‏}‏بالنصب فيهما ردا على قوله ‏{‏أن يكذبون‏}‏قال الكسائي‏:‏ القراءة بالرفع؛ يعني في ‏{‏يضيق صدري ولا ينطلق لسانى‏}‏من وجهين‏:‏ أحدهما الابتداء والآخر بمعنى وإني يضيق صدري ولا ينطلق لساني يعني نسقا على ‏{‏إني أخاف‏}‏قال الفراء‏:‏ ويقرأ بالنصب‏.‏ حكي ذلك عن الأعرج وطلحة وعيسى بن عمر وكلاهما له وجه‏.‏ قال النحاس‏:‏ الوجه لرفع؛ لأن النصب عطف على ‏{‏يكذبون‏}‏وهذا بعيد يدل على ذلك قوله عز وجل ‏{‏واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي‏} ‏ فهذا يدل على أن هذه كذا‏.‏ ‏{‏ولا ينطلق لساني‏}‏في المحاجة على ما أحب؛ وكان في لسانه عقدة على ما تقدم في طه ‏.‏ ‏{‏فأرسل إلى هارون‏}‏أرسل إليه جبريل بالوحي، واجعله رسولا معي ليؤازرني ويظاهرني ويعاونني‏.‏ ولم يذكر هنا ليعينني؛ لأن المعنى كان معلوما، وقد صرح به في سورة طه‏{‏واجعل لي وزيرا‏} ‏ وفي القصص ‏{‏أرسله معي ردءا يصدقني‏}‏ وكأن موسى أذن له في هذا السؤال، ولم يكن ذلك استعفاء من الرسالة بل طلب من يعينه‏.‏ ففي هذا دليل على أن من لا يستقل بأمر، ويخاف من نفسه تقصيرا، أن يأخذ من يستعين به عليه، ولا يلحقه في ذلك لوم‏.‏

قوله ‏{‏ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون‏}‏الذنب هنا قتل القبطي واسمه فاثور على ما يأتي في القصص بيانه، وقد مضى في طه ذكره‏.‏ وخاف موسى أن يقتلوه به، ودل على أن الخوف قد يصحب الأنبياء والفضلاء والأولياء مع معرفتهم بالله وأن لا فاعل إلا هو؛ إذ قد يسلط من شاء على من شاء ‏{‏قال كلا‏}‏أي كلا لن يقتلوك‏.‏ فهو ردع وزجر عن هذا الظن، وأمر بالثقة بالله تعالى؛ أي ثق بالله وانزجر عن خوفك منهم؛ فإنهم لا يقدرون على قتلك، ولا يقوون عليه‏.‏ ‏{‏فاذهبا‏}‏أي أنت وأخوك فقد جعلته رسولا معك‏.‏ ‏{‏بآياتنا‏}‏أي ببراهيننا وبالمعجزات‏.‏ وقيل‏:‏ أي مع آياتنا‏.‏ ‏{‏إنا معكم‏}‏يريد نفسه سبحانه وتعالى‏.‏ ‏{‏مستمعون‏}‏أي سامعون ما يقولون وما يجاوبون‏.‏ وإنما أراد بذلك تقوية قلبيهما وأنه يعينهما ويحفظهما‏.‏ والاستماع إنما يكون بالإصغاء، ولا يوصف الباري سبحانه بذلك‏.‏ وقد وصف سبحانه نفسه بأنه السميع البصير‏.‏ وقال في طه‏{‏أسمع وأرى‏}‏ وقال ‏{‏معكم‏}‏فأجراهما مجرى الجمع؛ لأن الاثنين جماعة‏.‏ ويجوز أن يكون لهما ولمن أرسلا إليه‏.‏ ويجوز أن يكون لجميع بني إسرائيل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 16 ‏:‏22 ‏)‏

‏{‏ فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين، أن أرسل معنا بني إسرائيل، قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين، وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين، قال فعلتها إذا وأنا من الضالين، ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين، وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ‏}‏

قوله ‏{‏فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين‏}‏قال أبو عبيدة‏:‏ رسول بمعنى رسالة والتقدير على هذا؛ إنا ذوو رسالة رب العالمين‏.‏ قال الهذلي‏:‏

ألكني إليها وخير الرسول أعلمهم بنواحي الخبر

ألكني إليها معناه أرسلني‏.‏ وقال آخر‏:‏

لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول

آخر‏:‏

ألا أبلغ بني عمرو رسولا بأني عن فتاحتكم غني

وقال العباس بن مرداس‏:‏

ألا من مبلغ عنى خفافا رسولا بيت أهلك منتهاها

يعني رسالة فلذلك أنثها‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ ويجوز أن يكون الرسول في معنى الاثنين والجمع؛ فتقول العرب‏:‏ هذا رسولي ووكيلي، وهذان رسولي ووكيلي، وهؤلاء رسولي ووكيلي‏.‏ ومنه قوله ‏{‏فإنهم عدو لي‏} ‏ ‏.‏ وقيل‏:‏ معناه إن كل واحد منا رسول رب العالمين‏.‏ ‏{‏أن أرسل معنا بني إسرائيل‏}‏أي أطلقهم وخل سبيلهم حتى يسيروا معنا إلى فلسطين ولا تستعبدهم؛ وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة، وكانوا في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين ألفا‏.‏ فانطلقا إلى فرعون فلم يؤذن لهما سنة في الدخول عليه، فدخل البواب على فرعون فقال‏:‏ ها هنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين‏.‏ فقال فرعون‏:‏ ايذن له لعلنا نضحك منه؛ فدخلا عليه وأديا الرسالة‏.‏ و روى وهب وغيره‏:‏ أنهما لما دخلا على فرعون وجداه وقد أخرج سباعا من أسد ونمور وفهود يتفرج عليها، فخاف سواسها أن تبطش بموسى وهارون، فأسرعوا إليها، وأسرعت السباع إلى موسى وهارون، فأقبلت تلحس أقدامهما، وتبصبص إليهما بأذنابها، وتلصق خدودها بفخذيهما، فعجب فرعون من ذلك فقال‏:‏ ما أنتما‏؟‏ قالا‏}‏إن رسول رب العالمين‏}‏فعرف موسى لأنه نشأ في بيته؛ فـ ‏{‏قال ألم نربك فينا وليدا‏}‏على جهة المن عليه والاحتقار‏.‏ أي ربيناك صغيرا ولم نقتلك في جملة من قتلنا ‏{‏ولبثت فينا من عمرك سنين‏}‏فمتى كان هذا الذي تدعيه‏.‏ ثم قرره بقتل القبطي بقوله ‏{‏وفعلت فعلتك التي فعلت‏}‏والفعلة بفتح الفاء المرة من الفعل‏.‏ وقرأ الشعبي‏}‏فعلتك‏}‏بكسر الفاء والفتح أولى؛ لأنها المرة الواحدة، والكسر بمعنى الهيئة والحال، أي فعلتك التي تعرف فكيف تدعي مع علمنا أحوالك بأن الله أرسلك‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

كأن مشيتها من بيت جارتها مر السحابة لا ريث ولا عجل

ويقال‏:‏ كان ذلك أيام الردة والردة‏.‏ ‏{‏وأنت من الكافرين‏}‏قال الضحاك‏:‏ أي في قتلك القبطي إذ هو نفس لا يحل قتله‏.‏ وقيل‏:‏ أي بنعمتي التي كانت لنا عليك من التربية والإحسان إليك؛ قاله ابن زيد‏.‏ الحسن‏}‏من الكافرين‏}‏في أني إلهك‏.‏ السدي‏}‏من الكافرين‏}‏بالله لأنك كنت معنا على ديننا هذا الذي تعيبه‏.‏ وكان بين خروج موسى عليه السلام حين قتل القبطي وبين رجوعه نبيا أحد عشر عاما غير أشهر‏.‏ فـ ‏{‏قال فعلتها إذا‏}‏أي فعلت تلك الفعلة يريد قتل القبطي ‏{‏وأنا‏}‏إذ ذاك ‏{‏من الضالين‏}‏أي من الجاهلين؛ فنفى عن نفسه الكفر، وأخبر أنه فعل ذلك على الجهل‏.‏ وكذا قال مجاهد؛ ‏{‏من الضالين‏}‏من الجاهلين‏.‏ ابن زيد‏:‏ من الجاهلين بأن الوكزة تبلغ القتل‏.‏ وفي مصحف عبدالله ‏{‏من الجاهلين‏}‏ويقال لمن جهل شيئا ضل عنه‏.‏ وقيل ‏{‏وأنا من الضالين‏}‏من الناسين؛ قاله أبو عبيدة‏.‏ وقيل ‏{‏وأنا من الضالين‏}‏عن النبوة ولم يأتني عن الله فيه شيء، فليس علي فيما فعلته في تلك الحالة توبيخ‏.‏ وبين بهذا أن التربية فيهم لا تنافي النبوة والحلم على الناس، وأن القتل خطأ أو في وقت لم يكن فيه شرع لا ينافي النبوة‏.‏

قوله ‏{‏ففررت منكم لما خفتكم‏}‏أي خرجت من بينكم إلى مدين كما في سورة القصص‏{‏فخرج منها خائفا يترقب‏} ‏ وذلك حين القتل‏.‏ ‏{‏فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين‏}‏يعني النبوة؛ عن السدي وغيره‏.‏ الزجاج‏:‏ تعليم التوراة التي فيها حكم الله‏.‏ وقيل‏:‏ علما وفهما‏.‏ ‏{‏وجعلني من المرسلين‏}‏‏.‏

قوله ‏{‏وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل‏}‏اختلف الناس في معنى هذا الكلام؛ فقال السدي والطبري والفراء‏:‏ هذا الكلام من موسى عليه السلام على جهة الإقرار بالنعمة؛ كأنه يقول‏:‏ نعم‏؟‏ وتربيتك نعمة علي من حيث عبدت غيري وتركتني، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي‏.‏ وقيل‏:‏ هو من موسى عليه السلام على جهة الإنكار؛ أي أتمن علي بأن ربيتني وليدا وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم‏؟‏‏!‏ أي ليست بنعمة‏؟‏ لأن الواجب كان ألا تقتلهم ولا تستعبدهم فإنهم قومي؛ فكيف تذكر إحسانك إلي على الخصوص‏؟‏‏!‏ قال معناه قتادة وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ فيه تقدير استفهام؛ أي أو تلك نعمة‏؟‏ قاله الأخفش والفراء أيضا وأنكره النحاس وغيره‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا لا يجوز لأن ألف الاستفهام تحدث معنى، وحذفها محال إلا أن يكون في الكلام أم؛ كما قال الشاعر‏:‏

تروح من الحي أم تبتكر

ولا أعلم بين النحويين اختلافا في هذا إلا شيئا قاله الفراء‏.‏ قال‏:‏ يجوز ألف الاستفهام في أفعال الشك، وحكي ترى زيدا منطلقا‏؟‏ بمعنى أترى‏.‏ وكان علي بن سليمان يقول في هذا‏:‏ إنما أخذه من ألفاظ العامة‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ قال الفراء ومن قال إنها إنكار قال معناه أو تلك نعمة‏؟‏ على طريق الاستفهام؛ كقوله ‏{‏هذا ربي‏}‏ ‏{‏فهم الخالدون‏}‏ ‏.‏ قال الشاعر‏:‏

رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

وأنشد الغزنوي شاهدا على ترك الألف قولهم‏:‏

لم أنس يوم الرحيل وقفتها وجفنها من دموعها شرق

وقولها والركاب واقفة تركتني هكذا وتنطلق

قلت‏:‏ ففي هذا حذف ألف الاستفهام مع عدم أم خلاف قول النحاس‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إن الكلام خرج مخرج التبكيت والتبكيت يكون، باستفهام وبغير استفهام؛ والمعنى‏:‏ لو‏.‏ لم تقتل بني إسرائيل لرباني أبواي؛ فأي نعمة لك علي‏!‏ فأنت تمن علي بما لا يجب أن تمن به‏.‏ وقيل‏:‏ معناه كيف تمن بالتربية وقد أهنت قومي‏؟‏ ومن أهين قومه ذل‏.‏ و‏{‏أن عبدت‏}‏في موضع رفع على البدل من ‏{‏نعمة‏}‏ويجوز أن تكون في موضع نصب بمعنى‏:‏ لأن عبدت بني إسرائيل؛ أي اتخذتهم عبيدا‏.‏ يقال‏:‏ عبدته وأعبدته بمعنى؛ قال الفراء وأنشد‏:‏

علام يُعْبِدُني قومي وقد كثرت فيهم أباعر ما شاؤوا وعِبدان

 الآية رقم ‏(‏ 23 ‏:‏ 51 ‏)‏

‏{‏قال فرعون وما رب العالمين، قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين، قال لمن حوله ألا تستمعون، قال ربكم ورب آبائكم الأولين، قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون، قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون، قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين، قال أولو جئتك بشيء مبين، قال فأت به إن كنت من الصادقين، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين، قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم، يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون، قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين، يأتوك بكل سحار عليم، فجمع السحرة لميقات يوم معلوم، وقيل للناس هل أنتم مجتمعون، لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين، فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين، قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين، قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون، فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون، فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، فألقي السحرة ساجدين، قالوا آمنا برب العالمين، رب موسى وهارون، قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين، قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون، إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين ‏}‏

قوله ‏{‏قال فرعون وما رب العالمين‏}‏لما غلب موسى فرعون بالحجة ولم يجد اللعين من تقريره على التربية وغير ذلك حجة رجع إلى معارضة موسى في قوله‏:‏ رسول رب العالمين؛ فاستفهمه استفهاما عن مجهول من الأشياء‏.‏ قال مكي وغيره‏:‏ كما يستفهم عن الأجناس فلذلك استفهم بـ ما ‏.‏ قال مكي‏:‏ وقد ورد له استفهام بـ من في موضع آخر ويشبه أنها مواطن؛ فأتى موسى بالصفات الدالة على الله من مخلوقاته التي لا يشاركه فيها مخلوق، وقد سأل فرعون عن الجنس ولا جنس لله تعالى؛ لأن الأجناس محدثة، فعلم موسى جهله فأضرب عن سؤاله وأعلمه بعظيم قدرة الله التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها‏.‏ فقال فرعون‏}‏ألا تستمعون‏}‏على معنى الإغراء والتعجب من سفه المقالة إذ كانت عقيدة القوم أن فرعون ربهم ومعبودهم والفراعنة قبله كذلك‏.‏ فزاد موسى في البيان بقوله ‏{‏ربكم ورب آبائكم الأولين‏}‏فجاء بدليل يفهمونه عنه؛ لأنهم يعلمون أنه قد كان لهم آباء وأنهم قد فنوا وأنه لا بد لهم من مغير، وأنهم قد كانوا بعد أن لم يكونوا، وأنهم لا بد لهم من مكون‏.‏ فقال فرعون حينئذ على جهة الاستخفاف‏}‏قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون‏}‏أي ليس يجيبني عما أسأل؛ فأجابه موسى عليه السلام عن هذا بأنقال ‏{‏رب المشرق والمغرب‏}‏أي ليس ملكه كملكك؛ لأنك إنما تملك بلدا واحدا لا يجوز أمرك في غيره، ويموت من لا تحب أن يموت، والذي أرسلني يملك المشرق والمغرب؛ ‏{‏وما بينهما إن كنتم تعقلون‏}‏وقيل علم موسى عليه السلام أن قصده في السؤال معرفة من سأل عنه، فأجاب بما هو الطريق إلى معرفة الرب اليوم‏.‏ ثم لما انقطع فرعون لعنه الله في باب الحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب فتوعد موسى بالسجن، ولم يقل ما دليلك على أن هذا الإله أرسلك؛ لأن فيه الاعتراف بأن ثم إلها غيره‏.‏ وفي توعده بالسجن ضعف‏.‏ وكان فيما يروى أنه يفزع منه فزعا شديدا حتى كان اللعين لا يمسك بوله‏.‏ وروي أن سجنه كان أشد من القتل‏.‏ وكان إذا سجن أحدا لم يخرجه من سجنه حتى يموت، فكان مخوفا‏.‏ ثم لما كان عند موسى عليه السلام من أمر الله تعالى ما لا يرعه توعد فرعون ‏{‏قال‏}‏له على جهة اللطف به والطمع في إيمانه‏}‏أولو جئتك بشيء مبين‏}‏فيتضح لك به صدقي، فلما سمع فرعون ذلك طمع في أن يجد أثناءه موضع معارضة ‏{‏فقال‏}‏له ‏{‏فأت به إن كنت من الصادقين‏}‏‏.‏ ولم يحتج الشرط إلى جواب عند سيبويه؛ لأن ما تقدم يكفي منه‏.‏ ‏{‏فألقى عصاه‏}‏من يده فكان ما أخبر الله من قصته‏.‏ وقد تقدم بيان ذلك وشرحه في الأعراف إلى آخر القصة‏.‏ وقال السحرة لما توعدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل ‏{‏لا ضير‏}‏أي لا ضرر علينا فيما يلحقنا من عذاب الدنيا؛ أي إنما عذابك ساعة فنصبر لها وقد لقينا الله مؤمنين‏.‏ وهذا يدل على شدة استبصارهم وقوة إيمانهم‏.‏ قال مالك‏:‏ دعا موسى عليه السلام فرعون أربعين سنة إلى الإسلام، وأن السحرة آمنوا به في يوم واحد‏.‏ يقال‏:‏ لا ضير ولا ضَور ولا ضر ولا ضرر ولا ضارورة بمعنى واحد؛ قال الهروي‏.‏ وأنشد أبو عبيده‏:‏

فإنك لا يضورك بعد حول أظبي كان أمك أم حمار

وقال الجوهري‏:‏ ضاره يضوره ويضيره ضيرا وضورا أي ضره‏.‏ قال الكسائي‏:‏ سمعت بعضهم يقول لا ينفعني ذلك ولا يضورني‏.‏ والتضور الصياح والتلوي عند الضرب أو الجوع‏.‏ والضورة بالضم الرجل الحقير الصغير الشأن‏.‏ ‏{‏إنا إلى ربنا منقلبون‏}‏يريد نتقلب إلى رب كريم رحيم ‏{‏إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين‏}‏‏.‏ ‏{‏أن‏}‏في موضع نصب، أي لأن كنا‏.‏ وأجاز الفراء كسرها على أن تكون مجازاة‏.‏ ومعنى ‏{‏أول المؤمنين‏}‏أي عند ظهور الآية ممن كان في جانب فرعون‏.‏ الفراء‏:‏ أول مؤمني زماننا‏.‏ وأنكره الزجاج وقال‏:‏ قد روي أنه آمن معه ستمائة ألف وسبعون ألفا، وهم الشرذمة القليلون الذين قال فيهم فرعون‏}‏إن هؤلاء لشرذمة قليلون‏}‏روي ذلك عن ابن مسعود وغيره‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 52 ‏:‏ 68 ‏)‏

‏{‏وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون، فأرسل فرعون في المدائن حاشرين، إن هؤلاء لشرذمة قليلون، وإنهم لنا لغائظون، وإنا لجميع حاذرون، فأخرجناهم من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم، كذلك وأورثناها بني إسرائيل، فأتبعوهم مشرقين، فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون، قال كلا إن معي ربي سيهدين، فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وأزلفنا ثم الآخرين، وأنجينا موسى ومن معه أجمعين، ثم أغرقنا الآخرين، إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم ‏}‏

قوله ‏{‏وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون‏}‏لما كان من سنته تعالى في عباده إنجاء المؤمنين المصدقين من أوليائه، المعترفين برسالة رسله وأنبيائه، وإهلاك الكافرين المكذبين لهم من أعدائه، أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلا وسماهم عباده؛ لأنهم آمنوا بموسى‏.‏ ومعنى ‏{‏إنكم متبعون‏}‏أي يتبعكم فرعون وقومه ليردوكم‏.‏ وفي ضمن هذا الكلام تعريفهم أن الله ينجيهم منهم؛ فخرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل سحرا، فترك الطريق إلى الشام على يساره وتوجه نحو البحر، فكان الرجل من بني إسرائيل يقول له في ترك الطريق فيقول‏:‏ هكذا أمرت‏.‏ فلما أصبح فرعون وعلم بسرى موسى ببني إسرائيل، خرج في أثرهم، وبعث إلى مدائن مصر لتلحقه العساكر، فروي أنه لحقه ومعه مائة ألف أدهم من الخيل سوى سائر الألوان‏.‏ وروي أن بني إسرائيل كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا‏.‏ والله أعلم بصحته‏.‏ وإنما اللازم من الآية الذي يقطع به أن موسى عليه السلام خرج بجمع عظيم من بني إسرائيل وأن فرعون تبعه بأضعاف ذلك‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان مع فرعون ألف جبار كلهم عليه تاج وكلهم أمير خيل‏.‏ والشرذمة الجمع القليل المحتقر والجمع الشراذم‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الشرذمة الطائفة من الناس والقطعة من الشيء‏.‏ وثوب شراذم أي قطع‏.‏ وأنشد الثعلبي قول الراجز‏:‏

جاء الشتاء وثيابي أخلاق شراذم يضحك منها النواق

النواق من الرجال الذي يروض الأمور ويصلحها؛ قاله في الصحاح‏.‏ واللام في قوله ‏{‏لشرذمة‏}‏لام توكيد وكثيرا ما تدخل في خبر إن، إلا أن الكوفيين لا يجيزون إن زيدا لسوف يقوم‏.‏ والدليل على أنه جائز قوله ‏{‏فلسوف تعلمون‏}‏وهذه لام التوكيد بعينها وقد دخلت على سوف؛ قاله النحاس‏.‏ ‏{‏وإنهم لنا لغائظون‏}‏أي أعداء لنا لمخالفتهم ديننا وذهابهم بأموالنا التي استعاروها على ما تقدم‏.‏ وماتت أبكارهم تلك الليلة‏.‏ وقد مضى هذا في الأعراف و طه مستوفى‏.‏ يقال‏:‏ غاظني كذا وأغاظني‏.‏ والغيظ الغضب ومنه التغيظ والاغتياظ‏.‏ أي غاظونا بخروجهم من غير إذن‏.‏ ‏{‏وإنا لجميع حذرون‏}‏أي مجتمع مستعد أخذنا حذرنا وأسلحتنا‏.‏ وقرئ‏}‏حاذرون‏}‏ومعناه معنى ‏{‏حَذِرون‏}‏أي فرقون خائفون‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وقرئ ‏{‏وإنا لجميع حاذرون‏}‏ و‏{‏حذرون‏}‏ و‏{‏حَذُرون‏}‏ بضم الذال حكاه الأخفش؛ ومعنى‏}‏حاذرون‏}‏متأهبون، ومعنى‏}‏حذرون‏}‏خائفون‏.‏ قال النحاس‏}‏حذرون‏}‏قراءة المدنيين وأبي عمرو، وقراءة أهل الكوفة‏}‏حاذرون‏}‏وهي معروفة عن عبدالله بن مسعود وابن عباس؛ و‏{‏حادرون‏}‏بالدال غير المعجمة قراءة أبي عباد وحكاها المهدوي عن ابن أبي عمار، والماوردي والثعلبي عن سميط بن عجلان‏.‏ قال النحاس‏:‏ أبو عبيدة يذهب إلى أن معنى ‏{‏حذرون‏}‏‏{‏وحاذرون‏}‏واحد‏.‏ وهو قول سيبويه وأجاز‏:‏ هو حذر زيدا؛ كما يقال‏:‏ حاذر زيدا، وأنشد‏:‏

حذر أمورا لا تضير وآمن ما ليس منجيه من الأقدار

وزعم أبو عمر الجرمي أنه يجوز هو حذر زيدا على حذف من‏.‏ فأما أكثر النحويين فيفرقون بين حذر وحاذر؛ منهم الكسائي والفراء ومحمد بن يزيد؛ فيذهبون إلى أن معنى حذر في خلقته الحذر، أي متيقظ متنبه، فإذا كان هكذا لم يتعد، ومعنى حاذر مستعد وبهذا جاء التفسير عن المتقدمين‏.‏ قال عبدالله بن مسعود في قول الله عز وجل ‏{‏وإنا لجميع حاذرون‏}‏قال‏:‏ مؤدون في السلاح والكراع مقوون، فهذا ذاك بعينه‏.‏ وقوله‏:‏ مؤدون معهم أداة‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن المعنى‏:‏ معنا سلاح وليس معهم سلاح يحرضهم على القتال؛ فأما ‏{‏حادرون‏}‏بالدال المهملة فمشتق من قولهم عين حدرة أي ممتلئة؛ أي نحن ممتلئون غيظا عليهم؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

وعين لها حدرة بدرة شقت مآقيهما من أخر

وحكى أهل اللغة أنه يقال‏:‏ رجل حادر إذا كان ممتلئ اللحم؛ فيجوز أن يكون المعنى الامتلاء من السلاح‏.‏ المهدوي‏:‏ الحادر القوي الشديد‏.‏

قوله ‏{‏فأخرجناهم من جنات وعيون‏}‏يعني من أرض مصر‏.‏ وعن عبدالله بن عمرو قال‏:‏ كانت الجنات بحافتي النيل في الشقتين جميعا من أسوان إلى رشيد، وبين الجنات زروع‏.‏ والنيل سبعة خلجان‏:‏ خليج الإسكندرية، وخليج سخا، وخليج دمياط، وخليج سردوس، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج المنهى متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء، والزروع ما بين الخلجان كلها‏.‏ وكانت أرض مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعا بما دبروا وقدروا من قناطرها وجسورها وخلجانها؛ ولذلك سمي النيل إذا غلق ستة عشر ذراعا نيل السلطان، ويخلع على ابن أبي الرداد؛ وهذه الحال مستمرة إلى الآن‏.‏ وإنما قيل نيل السلطان لأنه حينئذ يجب الخراج على الناس‏.‏ وكانت أرض مصر جميعها تروى من إصبع واحدة من سبعة عشر ذراعا، وكانت إذا غلق النيل سبعة عشر ذراعا ونودي عليه إصبع واحد من ثمانية عشر ذراعا، ازداد في خراجها ألف ألف دينار‏.‏ فإذا خرج‏.‏ عن ذلك ونودي عليه إصبعا واحدا من تسعة عشر ذراعا نقص خراجها ألف ألف دينار‏.‏ وسبب هذا ما كان ينصرف في المصالح والخلجان والجسور والاهتمام بعمارتها‏.‏ فأما الآن فإن أكثرها لا يروى حتى ينادى إصبع من تسعة عشر ذراعا بمقياس مصر‏.‏ وأما أعمال الصعيد الأعلى، فإن بها ما لا يتكامل ريه إلا بعد دخول الماء في الذراع الثاني والعشرين بالصعيد الأعلى‏.‏

قلت‏:‏ أما أرض مصر فلا تروى جميعها الآن إلا من عشرين ذراعا وأصابع؛ لعلو الأرض وعدم الاهتمام بعمارة جسورها، وهو من عجائب الدنيا؛ وذلك أنه يزيد إذا انصبت المياه في جميع الأرض حتى يسيح على جميع أرض مصر، وتبقى البلاد كالأعلام لا يوصل إليها إلا بالمراكب والقياسات‏.‏ وروي عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه قال‏:‏ نيل مصر سيد الأنهار، سخر الله له كل نهر بين المشرق والمغرب، وذلل الله له الأنهار؛ فإذا أراد الله أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده، فأمدته الأنهار بمائها، وفجر الله له عيونا، فإذا انتهى إلى ما أراد الله عز وجل، أوحى الله تبارك وتعالى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره‏.‏ وقال قيس بن الحجاج‏:‏ لما افتتحت مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل بؤنة من أشهر القبط فقالوا له‏:‏ أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها، فقال لهم‏:‏ وما ذاك‏؟‏ فقالوا‏:‏ إذا كان لاثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها؛ أرضينا أبويها، وحملنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل؛ فقال لهم عمرو‏:‏ هذا لا يكون في الإسلام؛ وإن الإسلام ليهدم ما قبله‏.‏ فأقاموا أبيب ومسرى لا يجري قليل ولا كثير، وهموا بالجلاء‏.‏ فلما رأى ذلك عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فأعلمه بالقصة، فكتب إليه عمر بن الخطاب‏:‏ إنك قد أصبت بالذي فعلت، وأن الإسلام يهدم ما قبله ولا يكون هذا‏.‏ وبعث إليه ببطاقة في داخل كتابه‏.‏ وكتب إلى عمرو‏:‏ إني قد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي، فألقها في النيل إذا أتاك كتابي‏.‏ فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو بن العاص أخذ البطاقة ففتحها فإذا فيها‏:‏ من عبد الله أمير المؤمنين عمر إلى نيل مصر - أما بعد - فإن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك‏.‏ قال‏:‏ فألقى البطاقة في النيل قبل الصليب بيوم وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها؛ لأنه لا تقوم مصلحتهم فيها إلا بالنيل‏.‏ فلما ألقى البطاقة في النيل، أصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله في ليلة واحدة ستة عشر ذراعا، وقطع الله تلك السيرة عن أهل مصر من تلك السنة‏.‏ قال كعب الأحبار‏:‏ أربعة أنهار من الجنة وضعها الله في الدنيا سيحان وجيحان والنيل والفرات، فسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في الجنة، والنيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة‏.‏ وقال ابن لهيعة‏:‏ الدجلة نهر اللبن في الجنة‏.‏

قلت‏:‏ الذي في الصحيح من هذا حديث أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة‏)‏ ‏"‏لفظ مسلم ‏"‏وفي حديث الإسراء من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رجل من قومه قال‏:‏ ‏(‏وحدث نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت يا جبريل ما هذه الأنهار قال أما النهران الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات‏)‏ ‏"‏لفظ مسلم‏.‏ وقال البخاري من طريق شريك عن أنس ‏"‏‏(‏فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان فقال ما هذان النهران يا جبريل قال هذا النيل والفرات عنصرهما ثم مضى في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من اللؤلؤ والزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر فقال ما هذا يا جبريل فقال هذا هو الكوثر الذي خبأ لك ربك‏.‏‏)‏ وذكر الحديث‏.‏ والجمهور على أن المراد بالعيون عيون الماء‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ المراد عيون الذهب‏.‏ وفي الدخان ‏{‏كم تركوا من جنات وعيون‏.‏ وزروع‏}‏ ‏.‏ قيل‏:‏ إنهم كانوا يزرعون ما بين الجبلين من أول مصر إلى آخرها‏.‏ وليس في الدخان ‏{‏وكنوز‏}‏‏.‏ ‏{‏وكنوز‏}‏جمع كنز؛ وقد مضى هذا في سورة براءة والمراد بها ها هنا الخزائن‏.‏ وقيل‏:‏ الدفائن‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الأنهار؛ وفيه نظر؛ لأن العيون تشملها‏.‏ ‏{‏ومقام كريم‏}‏قال ابن عمر ابن عباس ومجاهد‏:‏ المقام الكريم المنابر؛ وكانت ألف منبر لألف جبار يعظمون عليها فرعون وملكه‏.‏ وقيل‏:‏ مجالس الرؤساء والأمراء؛ حكاه ابن عيسى وهو قريب من الأول‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ المساكن الحسان‏.‏ وقال ابن لهيعة‏:‏ سمعت أن المقام الكريم الفيوم‏.‏ وقيل‏:‏ كان يوسف عليه السلام قد كتب على مجلس من مجالسه ‏(‏لا إله إلا الله إبراهيم خليل الله‏)‏ فسماها الله كريمة بهذا‏.‏ وقيل‏:‏ مرابط الخيل لتفرد الزعماء بارتباطها عدة وزينة؛ فصار مقامها أكرم منزل بهذا؛ ذكره الماوردي‏.‏ والأظهر أنها المساكن الحسان كانت تكرم عليهم‏.‏ والمقام في اللغة يكون الموضع ويكون مصدرا‏.‏ قال النحاس‏:‏ المقام في اللغة الموضع؛ من قولك قام يقوم، وكذا المقامات واحدها مقامة؛ كما قال‏:‏

وفيهم مقامات حسان وجوههم وأندية ينتابها القول والفعل

والمقام أيضا المصدر من قام يقوم‏.‏ والمقام بالضم الموضع من أقام‏.‏ والمصدر أيضا من أقام يقيم‏.‏

قوله ‏{‏كذلك وأورثناها بني إسرائيل‏}‏يريد أن جميع ما ذكره الله تعالى من الجنات والعيون والكنوز والمقام الكريم أورثه الله بني إسرائيل‏.‏ قال الحسن وغيره‏:‏ رجع بنو إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالوراثة هنا ما استعاروه من حلي آل فرعون بأمر الله تعالى‏.‏

قلت‏:‏ وكلا الأمرين حصل لهم‏.‏ والحمد لله‏.‏

قوله ‏{‏فأتبعوهم مشرقين‏}‏أي فتبع فرعون وقومه بني إسرائيل‏.‏ قال السدي‏:‏ حين أشرقت الشمس بالشعاع‏.‏ وقال قتادة‏:‏ حين أشرقت الأرض بالضياء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت‏.‏ واختلف في تأخر فرعون وقومه عن موسى وبني إسرائيل على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ لاشتغالهم بدفن أبكارهم في تلك الليلة؛ لأن الوباء في تلك الليلة وقع فيهم؛ فقوله ‏{‏مشرقين‏}‏حال لقوم فرعون‏.‏ الثاني‏:‏ إن سحابة أظلتهم وظلمة فقالوا‏:‏ نحن بعد في الليل فما تقشعت عنهم حتى أصبحوا‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ معنى ‏{‏فأتبعوهم مشرقين‏}‏ناحية المشرق‏.‏ وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون‏}‏فاتبعوهم مشرقين‏}‏بالتشديد وألف الوصل؛ أي نحو المشرق؛ مأخوذ من قولهم‏:‏ شرق وغرب إذا سار نحو المشرق والمغرب‏.‏ ومعنى الكلام قدرنا أن يرثها بنو إسرائيل فاتبع قوم فرعون بني إسرائيل مشرقين فهلكوا، وورث بنو إسرائيل بلادهم‏.‏

قوله ‏{‏فلما تراءى الجمعان‏}‏أي تقابلا الجمعان بحيث يرى كل فريق صاحبه؛ وهو تفاعل من الرؤية‏.‏ ‏{‏قال أصحاب موسى إنا لمدركون‏}‏أي قرب منا العدو ولا طاقة لنا به‏.‏ وقراءة الجماعة‏}‏لمدركون‏}‏بالتخفيف من أدرك‏.‏ ومنه ‏}‏حتى إذا أدركه الغرق‏}‏ ‏.‏ وقرأ عبيد بن عمير والأعرج والزهري‏}‏لمدركون‏}‏بتشديد الدال من أدرك‏.‏ قال الفراء‏:‏ حفر واحتقر بمعنى واحد، وكذلك ‏{‏لمدركون‏}‏و‏{‏لمدركون‏}‏بمعنى واحد‏.‏ النحاس‏:‏ وليس كذلك يقول النحويون الحذاق؛ إنما يقولون‏:‏ مدركون ملحقون، ومدركون مجتهد في لحاقهم، كما يقال‏:‏ كسبت بمعنى أصبت وظفرت، واكتسبت بمعنى اجتهدت وطلبت وهذا معنى قول سيبويه‏.‏

قوله ‏{‏قال كلا إن معي ربي سيهدين‏}‏لما لحق فرعون بجمعه جمع موسى وقرب منهم، ورأت بنو إسرائيل العدو القوي والبحر أمامهم ساءت ظنونهم، وقالوا لموسى، على جهة التوبيخ والجفاء‏}‏إنا لمدركون‏}‏فرد عليهم قولهم وزجرهم وذكرهم وعد الله سبحانه له بالهداية والظفر ‏{‏كلا‏}‏أي لم يدركوكم ‏{‏إن معي ربي‏}‏أي بالنصر على العدو‏.‏ ‏{‏سيهدين‏}‏أي سيدلني على طريق النجاة؛ فلما عظم البلاء على بني إسرائيل؛ ورأوا من الجيوش ما لا طاقة لهم بها، أمر الله تعالى موسى أن يضرب البحر بعصاه؛ وذلك أنه عز وجل أراد أن تكون الآية متصلة بموسى ومتعلقة بفعل يفعله؛ وإلا فضرب العصا ليس بفارق للبحر، ولا معين على ذلك بذاته إلا بما اقترن به من قدرة الله تعالى واختراعه‏.‏ وقد مضى في البقرة قصة هذا البحر‏.‏ ولما انفلق صار فيه اثنا عشر طريقا على عدد أسباط بني إسرائيل، ووقف الماء بينها كالطود العظيم، أي الجبل العظيم‏.‏ والطود الجبل؛ ومنه قول امرئ القيس‏:‏

فبينا المرء في الأحياء طود رماه الناس عن كثب فمالا

وقال الأسود بن يعفر‏:‏

حلوا بأنقرة يسيل عليهم ماء الفرات يجيء من أطواد

جمع طود أي جبل‏.‏ فصار لموسى وأصحابه طريقا في البحر يبسا؛ فلما خرج أصحاب موسى وتكامل آخر أصحاب فرعون على ما تقدم في يونس انصب عليهم وغرق فرعون، فقال بعض أصحاب موسى‏:‏ ما غرق فرعون؛ فنبذ على ساحل البحر حتى نظروا إليه‏.‏ و روى ابن القاسم عن مالك قال‏:‏ خرج مع موسى عليه السلام رجلان من التجار إلى البحر فلما أتوا إليه قالا له بم أمرك الله‏؟‏ قال‏:‏ أمرت أن أضرب البحر بعصاي هذه فينفلق؛ فقالا له افعل ما أمرك الله فلن يخلفك؛ ثم ألقيا أنفسهما في البحر تصديقا له؛ فما زال كذلك البحر حتى دخل فرعون ومن معه، ثم ارتد كما كان‏.‏ وقد مضى هذا المعنى في سورة البقرة

قوله ‏{‏وأزلفنا ثم الآخرين‏}‏أي قربناهم إلى البحر؛ يعني فرعون وقومه‏.‏ قاله ابن عباس وغيره؛ قال الشاعر‏:‏

وكل يوم مضى أو ليلة سلفت فيها النفوس إلى الآجال تزدلف

أبو عبيدة‏}‏أزلفنا‏}‏جمعنا ومنه قيل لليلة المزدلفة ليلة جمع‏.‏ وقرأ أبو عبدالله بن الحرث وأبي بن كعب وابن عباس‏}‏وأزلقنا‏}‏بالقاف على معنى أهلكناهم؛ من قوله‏:‏ أزلقت الناقة وأزلقت الفرس فهي مزلق إذا أزلقت ولدها‏.‏ ‏{‏وأنجينا موسى ومن معه أجمعين، ثم أغرقنا الآخرين‏}‏يعني فرعون وقومه‏.‏ ‏{‏إن في ذلك لآية‏}‏أي علامة على قدرة الله تعالى ‏{‏وما كان أكثرهم مؤمنين‏}‏لأنه لم يؤمن من قوم فرعون إلا مؤمن آل فرعون واسمه حزقيل وابنته آسية امرأة فرعون، ومريم بنت ذا موسى العجوز التي دلت على قبر يوسف الصديق عليه السلام‏.‏ وذلك أن موسى عليه السلام لما خرج ببني إسرائيل من مصر أظلم عليهم القمر فقال لقومه‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقال علماؤهم‏:‏ إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا موثقا من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا‏.‏ قال موسى‏:‏ فأيكم يدري قبره‏؟‏ قال‏:‏ ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل؛ فأرسل إليها؛ فقال‏:‏ دليني على قبر يوسف، قالت‏:‏ لا والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي، قال‏:‏ وما حكمك‏؟‏ قالت‏:‏ حكمي أن أكون معك في الجنة؛ فثقل عليه، فقيل له‏:‏ أعطها حكمها؛ فدلتهم عليه، فاحتفروه واستخرجوا عظامه، فلما أقلوها، فإذا الطريق مثل ضوء النهار في رواية‏:‏ فأوحى الله إليه أن أعطها ففعل، فأتت بهم إلى بحيرة، فقالت لهم‏:‏ أنضبوا هذا الماء فأنضبوه واستخرجوا عظام يوسف عليه السلام؛ فتبينت لهم الطريق مثل ضوء النهار‏.‏ وقد مضى في يوسف و روى أبو بردة عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بأعرابي فأكرمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حاجتك‏)‏ قال‏:‏ ناقة أرحلها وأعنزا أحلبها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فلم عجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل‏)‏ فقال أصحابه‏:‏ وما عجوز بني إسرائيل‏؟‏ فذكر لهم حال هذه العجوز التي احتكمت على موسى أن تكون معه الجنة‏.‏